فصل: تفسير الآية رقم (153):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (153):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استعينوا بالصبر} على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة بطعن المعاندين في أمر القبلة {والصلاة} التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى. {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} معية خاصة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر.

.تفسير الآية رقم (154):

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}
{وَلاَ تَقُولُواْ} عطف على {واستعينوا} [البقرة: 153] إلخ مسوق لبيان إنه لا غائلة للمأمور به وإن الشهادة التي را يؤدي إليها الصبر حياة أبدية {لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله} أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء قولهم: {أموات} أي هم أموات. {بَلْ أَحْيَاء} أي بل هم أحياء، والجملة معطوفة على {لاَ تَقُولُواْ} إضراب عنه، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل قولوا أحياء لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم أنهم أحياء وإن كان ذلك أيضًا صحيحًا.
{وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي واختلف في هذه الحياة. فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقة بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه النشأة، واستدلوا بسياق قوله تعالى: {عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 196] وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم، وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك فقد روي عن الحسن أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض الناس على أرواح آل فرعون غدوًا وعشيًا فيصل إليهم الوجع، فوصول هذا الروح إلى الروح هو الرزق، والامتياز ليس جرد الحياة بل مع ما ينضم إليها من اختصاصهم زيد القرب من الله عز شأنه ومزيد البهجة والكرامة، وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقًا وأخرج الجملة الإسمية الدالة على الاستمرار المستوعب للأزمنة من وقت القتل إلا ما لا آخر له عن ظاهرها وقال: معنى {بَلْ أَحْيَاء} إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء، فالآية على حد {إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13، 14] وفائدة الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا: إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم فكأنه قيل: ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون، وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة، وحكى عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها، ولا يخفى أن هذه الأقوال ما عدا الأولين في غاية الضعف بل نهاية البطلان، والمشهور ترجيح القول الأول، ونسب إلى ابن عباس، وقتادة ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني، وجماعة من المفسرين لكنهم اختلفوا في المراد بالجسد، فقيل: هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الأحياء، فقد جاء في الحديث:
«إن المؤمن يفسح له مد بصره ويقال له نم نومة العروس» مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر عزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل: جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه، واستدل بما أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة» ولا يعارض هذا ما أخرجه مالك، وأحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة» ولا ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعًا «إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش» لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها، وقيل: جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال: رأيت فلانًا وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية واستدلوا بما أخرجه أبو جعفر مسندًا إلى يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله جالسًا فقال: ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله: سبحان اللها المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. ووجه الاستدلال إذا كان المراد بالمؤمنين الشهداء ظاهر، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره، وأن الأرواح وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال، وإنما يكون منه لو لم تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه والعود حاصل في النشأة الجنانية بل لو قلنا بعدم عودها إليه والتزمنا العود إلى جسم مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضًا لأنهم قالوه على وجه نفوا به الحشر والمعاد، وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد، وأن أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناءًا على أنها من المشكك لا المتواطئ، أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم، والذي يميل القلب إليه أن لهاتيك الأبدان شبهًا تامًا صوريًا بهذه الأبدان، وأن المواد مختلفة والأجزاء متفاوتة إذ فرق بين العالمين، وشتان ما بين البرزخين ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر، وتحمل الصورة على الصفة كما حملت على ذلك في حديث:
«خلق آدم على صورة الرحمن» واستبعاد أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم محمول على ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ، ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة استبعاد كما يتراءى من ظاهر الحديث حتى إن بعض العلماء لذلك حملوا {في} فيه على على وهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو كان موجودًا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئًا ولا ينافي نعيمها، أو ظن بأن لتلك الصورة روحًا غير روح الشهيد فلا يمكن أن تتعلق بها روحان، والأمر على خلاف ما يظنون، وإن شئت قلت بتمثل الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه السلام بصورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئته وإن لم يكن ذلك بعيدًا عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده لكن ليس إليه كثير حاجة، ولا فيه مزيد فضل، ولا عظيم مِنة، بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهة الأحلام، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مآت سنين، وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دمًا إذا رفعت العصابة عنها؛ فذلك مما رواه هيان بن بيان وما هو إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة.
هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعًا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدًا، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلًا ولا طرفة عين، وإلا لقال تعالى: ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله ماتوا، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم أموات وعدل سبحانه عن {قاتلوا} المعبر عنه في آل عمران (169) إلى {يُقْتَلُ} رومًا للمبالغة في النهي، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين، والآية نزلت كما أخرجه ابن منده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

.تفسير الآية رقم (155):

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} عطف على قوله تعالى: {استعينوا} [البقرة: 153] إلخ عطف المضمون على المضمون، والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان مواطنه، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلي والمختبر، ففي الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم، وهو محال من اللطيف الخبير والخطاب عام لسائر المؤمنين وقيل: للصحابة فقط، وقيل: لأهل مكة فقط. {بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع} أي بقليل من ذلك، والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسا أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة.
{وَنَقْصٍ مّنَ الاموال والانفس والثمرات} عطف إما على {شيء} ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد {كل} وإما على {الخوف} ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت {شيء} والمراد من الخوف خوف العدو، ومن الجوع القحط إقامة للمسبب مقام السبب قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن نقص الأموال هلاك المواشي، ومن نقص الأنفس ذهاب الأحبة بالقتل والموت، ومن نقص الثمرات تلفها بالجوائح، ونص عليها مع أنها من الأموال لأنها قد لا تكون مملوكة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: الخوف خوف الله تعالى والجوع صوم رمضان، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات، ومن الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل، كما يقال: ثمرة العلم العمل، وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد» واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل نزول الآية، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة وهي النمو والزيادة بالنقص، وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات، وكذا الأمراض، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان، والتعبير عن الزكاة بالنقص لكونها نقصًا صورة وإن كانت زيادة معنى فعند الابتلاء سماها نقصًا، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة ليسهل أداؤها.
{وَبَشّرِ الصابرين} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائية والجامع ظاهر كأنه قيل: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة ولكن لمن صبر منكم، وقيل: على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر.
وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى: